يمثل مصطلح «الموجة» في القراءات السينمائية حلقة ربط مهمة لتناولها في سياقات يمكن من خلالها ربط السينما بالمجال الاجتماعي الثقافي والسياسي الذي تدور في إطاره وتتلقى منه أفكاراً تنبت أصالة فردية لدى صناع الفيلم، وتتحول إلى مادة سينمائية تنتقل إلى علاقتها بالواقع، حتى وإن كان الفيلم خارجاً عنه.
من داخل هذا الإطار العام ثمة مرحلة تأكل فيها الموجة السينمائية نفسها، حينما يتحول الزخم المطلوب للتماهي بين الرؤية في الأفلام، إلى تخمة تقوم على الاستهلاك وإعادة تدوير الأفكار التي كانت في بدئها وقوداً لحراك جماعي، ثم تحولت بفعل سرعة العبور في الزمن المعاصر إلى الوقوع في فخ إعادة الإنتاج. عادة ما ينتج عن الحراك الجماعي للموجة السينمائية، تجارب نوعية تستعيد الفردية التي يحفظ لها الهامش ملمحاً من الاختلاف والاستثناء، مثلما يجبرها على الانزواء، أحياناً، على الوقوع في فخ الفئوية. في السينما المصرية، حقبة التسعينيات الماضية، تمثل الحراك الفردي التالي لجماعية الواقعية الجديدة، في عدة أفلام، من أهمها فيلما المخرج أسامة فوزي والسيناريست مصطفى زكري، أفلام رضوان الكاشف، وبجماهيرية أقل، الأفلام الروائية الطويلة للمخرجة أسماء البكري، لا يزال متوفراً منهم «شحاذون ونبلاء» و«كونشرتو في درب سعادة».
خلال فضاء حر ومغاير، عملت أسماء البكري على تخليق فضاء سينمائي له خصوصية، مدفوعاً بمقاومة محاكاة السرديات السينمائية السابقة عليها، سواء في الواقعية الملتزمة في تقنيتها وأفكارها خلال الستينيات أو مرحلة السبعينيات والثمانينيات التي اشتملت على مرونة في اللغة البصرية وحدود الاشتباك مع الواقع، فعلى اختلاف المراحل أو الحقب السينمائية في مصر، هناك مشترك قاعدي يرد المادة الفيلمية إلى إشكالية محلية، وتتحول معه المروية السينمائية إلى رمز مؤطر، لا يستطيع أن يتجاوز نفسه. عبر فيلميها المتوفرين للمشاهدة، تتضح قدرة أسماء الناجحة على تجاوز الوسيط والفكرة المحلية ووحدانية الممثل النجم، وكذلك الحكاية الآمنة التي ترتكز على مدى قبول المشاهد أكثر من تتبع صوتها المناسب، كيف تحكى، وكيف تتبلور الأفكار دون فخ الخطابة وتحويل الفيلم إلى منشور سياسي، كيف يمكن استنطاق ملمح جمالي ما من قلب حياة ارتجالية فقيرة؟
في مفتتح رواية «شحاذون ونبلاء» لألبير قصيري يستيقظ «جوهر» (صلاح السعدني) بنصف يقظة، لا يعرف هل اقتحم الواقع أحلامه أم العكس؟ كان نائماً على صحف ورقية في غرفة فارغة ومتهالكة، يفاجأ بسيل ماء يبلل فرشته ويسحبه إلى الواقع، يخرج فيجد ميتاً يغسل وجماعته تصرخ وتندب، يفزع حينما يعرف أن الماء من بقايا غسل الميت، يخرج مسرعاً إلى الشارع.
تعكس افتتاحية الفيلم المقتبس عن الرواية بنفس الاسم أسلوباً جديداً على ثقافة الاقتباس من الأدب إلى السينما المصرية، من خلال الاشتباك مع النص الأدبي عبر المصالحة لا الندية، والتماهي الذي يدفع إلى تخليق حكاية تنطلق من التدفق مهما كانت تفصيلاتها قاسية وصلبة، لذلك يحضر في المادة السينمائية معادلاً بصرياً ينتقي من المناخ الروائي ما يمكن إحالته بصرياً، ليس لأجل أن يكون امتداداً للحكاية الأدبية، بقدر ما يقوم الانتقاء على فهم ما يحمله الوسيط السينمائي من معادل يقوم على الانفصال عن الأصل الأدبي، بعيداً عن الهاجس المحدود المنوط بمدى التشابه أو الاختلاف.
جوهر في شحاتين ونبلاء - من صفحة الفيلم على موقع شركة «مصر العالمية»
تتجلى الثقافة السردية الرفيعة لدى أسماء البكري، على مستوى الشخصيات، في التقديم المميز لشخصية جوهر، المثقف وأستاذ التاريخ الذي ترك العمل والحياة وانزوى في حارة فقيرة. في الرواية يفتقد جوهر إلى ثقل بصري، غارق دائماً في هواجسه وأفكاره الداخلية، يعيش داخل رأسه أكثر ما يعيش في العالم، وهي آلية يمارسها عن عمد، لفقد رغبته في العيش تحت أي حدود. يبدو جوهر في نص ألبير قصيري، وجوداً يبحث بحدة عن التلاشي. التقط الفيلم المشكل الأساسي لدى جوهر، وقدمه ضمنياً عبر كثافة الوسيط السينمائي، الجانب التمثيلي حمل هاجس الانفصال الدائم لدى جوهر الذي عادة ما يبادل الأماكن علاقة تنافرية، لا يطيقها ولا تطيقه، يبحث عن الفراغ، لكن الصورة تؤطره هو وعالمه في حدود إجبارية، لأنه حتى في حالة رفض العيش، لا يزال جزءاً من سياق معيشي عام، مقيد به ومتورط فيه.
يدفع المناخ السينمائي ذا الطابع المكاني الحالم شخصية جوهر إلى مساحة من التناقض، تضفي عليه شيئاً من الأنسنة العاجزة. يبطن جوهر صمت وقلق يكشفهما الأداء التمثيلي، بينما حواراته وردوده تعبران عن وطأة اليأس القاسية التي ينطلق منها، هكذا يسحب من مساحة حركة غير واعية في الرواية هائمة وسائلة، إلى أخرى بصرية تقدمه بنصف وعي، لأن مشهدية السينما تجعلنا نرى بداخله وحوله شيئاً لا يراه، فهو على كل حال جزء من صورة، لا يمكنه أن يستقطع ذاته منها جملة، لذلك يتعاطى مع موقعه داخل الحكي البصري عبر المراوغة، ويعمل المناخ الفيلمي على مكاشفته.
بدلاً عن المبالغة في المونولوجات وتكرار مساءلة الذات في نفس الإطار، نقدها وكراهيتها والتصالح معها في الرواية، يساعد الاستقطاع الجزئي والتحول من شخص متخل تماماً إلى نصف متورط في الفيلم، على مركزة الشخصيات ضمن علاقات تحكمها نقلات درامية مباشرة، بلا حشر أو تطويع إجباري. يخرج جوهر إلى الشارع، يبحث عن تلميذه، الشاعر الفقير «يكن» (أحمد آدم)، وخلال ذلك يلتقي «كردي» (محمود الجندي) الموظف واليساري الحالم. تلتقي الشخصيات سريعاً في فلك الرفض الأساسي للحياة، لكنها على نحو آخر، وبحكم تورطها في الحياة أيضاً تحكمها رغبات حاكمة على القرار الواعي، تبدأ من شهوة شرب الحشيش لدى جوهر، التحقق عبر الحب لدى كردي، والنجاة عبر إنقاذ «النموذج» والفناء من أجل الآخر لدى يكن. عمل الفيلم على تأسيس غطاء يفرضه مبدأ إجباري في عيش الحياة، يجذب الشخصيات ويدفعها بحدة. حينما قام جوهر بقتل إحدى الفتيات في بيت المومسات الموجود في الحارة، لسبب بدا أولاً أنه رغبة في سرقة ذهبها، لكنه بعد خنق البنت لم يسرق شيئاً من ذهبها الذي اتضح لاحقاً أنه مزيف.
مشهد من فيلم شحاتين ونبلاء
أضفت التغيرات السردية القليلة في النصف الأول من الفيلم، والكثيرة في نصفه الثاني، روحاً حكائية جديدة، طعمتها أسماء البكري بروح محلية وإشارات زمنية عابرة تعود إلى أواخر زمن الحرب العالمية الثانية، ومع أن الزمن لم يشغل أكثر من فضاء وظيفي، إلا أنه انعكس من خلال تأثيره على الشخصيات وروح المكان الذي بدا موازياً للواقع، لكنه ليس جزءاً كلياً منه. نتج عن ذلك أن الحركة المتناقضة لدى جوهر، في هروبه غير الواعي من جريمته، وزهده الواعي في الحياة، رُدمت إلى سياق عمومي يمكن للمشاهد أن يشتبك معهما، لأن هذا التناقض الذي تأخذ الرغبة جزءاً منه، حول شخصيات الفيلم إلى مشاريع إنسانية متأزمة، تحمل هماً نعرفه من ظروف لا نعرفها، وتعاني من شيء به مشترك إنساني عام، يتورط فيه المشاهد بنفس درجة شخصيات الفيلم، فمثلما تتوافر القدرة على تجاوز الزمان والتماهي مع يأس جوهر، هناك حدة تتبناها الشخصيات في تأنبيبنا، كمشاهدين، على ما نحمله من معارف ثابتة وأكواد قيمية نسير بها الحياة ونفترض قيمتها مسبقاً.
مع البحث عن مرتكب جريمة القتل، تنفتح مساحة الاشتباك بين طرفي المسار الدرامي، بين الضابط «نور الدين» (عبد العزيز مخيون) الذي ورث العمل عن والده، ويرتكز على التزام عنيف يقوم على الكراهية لا الحب، وبين الثلاثي جوهر وكردي يكن، في باطن هذه المقابلة نزاع بين مباركة التحديث ونبذه، لكن ما يجمع الطرفين هو أنهما ينتهيان إلى علاقة معطوبة مع الحياة.
لم ينته التتابع الحكائي المتقن على نفس جودة تطوره، تحديداً في المواجهات الحوارية بين الشخصيات في آخر الفيلم، التي تحولت إلى تنظير جدلي يعكس رموزاً ثقافية لا نشاطاً بشرياً، خصوصاً وأن الشخصيات ذاتها، قدمت إما متعففة عن الدفاع عن نفسها أو أفكارها أو منغمسة في المزاج الآني بتطرف.
الحارة في شحاتين ونبلاء - من شركة «مصر العالمية»
يطرح كتاب «الاقتباس من الأدب إلى السينما» في مقدمته تناولاً لإشكالية العلاقة بين الأدب والسينما، ويسمي عملية الاقتباس «ترجمة ثقافية»، باعتبارها انتقالاً حراً من مادية الكلمات إلى مادية الصورة، حركة من وسيط إلى آخر تتوافر لديه أدوات التعديل والتجديد والتحكم في كيفية حكي القصة، باعتبارها حكاية جديدة، وهنا يصبح مفهوم الوسيط قائماً على «نظرة عابرة للوسائط تسمح بإدراك ظاهرة الاقتباس كمجموعة من التحولات المركبة التي تخترق النص والنوع والسياق، وتعيد تشكيلها في رحلات ذهاب وعودة مستمرة بين الفنون المختلفة».
يتمثل نشاط الحركة العابرة للوسيط في سينما أسماء البكري، كأنه حركة دائرية، تبدأ من الاقتباس من الأدب، والأفلام بدورها تتبادل الاقتباس، على مستوى الشخصيات وإعادة تخليق الأفكار في سياقات مختلفة، وبشكل أكثر شمولاً. تفتح أسماء البكري مادتها الفيلمية على أكبر فضاء يمكنه أن يتسع، تتجرأ على فخ الأريحية في الارتكاز على بنى أخرى. فمثلما اقتبست من ألبير قصيري، قامت أيضاً بمحاكاة البناء الموسيقي للكونشرتو في فيلمها الثاني، وكانت هذه مهمة أكثر صعوبة، لأنها حاولت معالجة شيء معرف له لغة إشارية مفهومة، من خلال آخر مجرد يستوعبه الجماهير أكثر من خلال تفاعل عاطفي مجهل. خلال هذا الانتقال الحر، تتحرك شخصيات أسماء في كونشرتو درب سعادة آتية من خارج النظام الاجتماعي، وتعيش بلا هيكل أو تضمين داخل جسد العالم المعرف، تتحرك حياتهم قائمة على الارتجال، بالتوازي مع طبقة بعيدة، نظامية ومعرفة، لديها حس ثقافي وفني رفيع.
صلاح السعدني وأسماء البكري - شركة «مصر العالمية»
يعمل «عزوز» (صلاح السعدني) في الأوبرا رفقة نسيبه «عوض» (صلاح عبدالله)، وهما من حارة شعبية، يعودان من العمل يومياً برأس منتفخة من شدة الخبط والرزع الأوبرالي. يتم تكليف عزوز بمرافقة «سونيا» (نجلاء فتحي) العائدة من فرنسا بعد زمن كي تعزف في أوبرا بلدها من جديد. ظهر شكل مطابق لهذه العلاقة بما فيها من تلاق ثقافي بعيد في شخصية يكن الذي اعتاد في «شحاذون ونبلاء» أن يستمع إلى عازفة جميلة وموهوبة، وأن يكتب لها بعض القصائد.
اقتبست أسماء من فيلمها الأول، بموضعه أكثر سعة في شخصية عزوز الذي يقف بقدم في قلب مناخ معيشي وآخر بعيد تماماً، لذلك وضع حسه الإنساني المجرد ومأثوره الشعبي بين جهتين، أدرك أن الموسيقى ليست فقط خبط ورزع، لكنها أيضاً ليست أكثر من شيء يجعله ممتلئاً بمشاعر لا يفهمها. ضريبة ذلك تمتعه بالرغبة في حب جديد، طفولي وخيالي، كاد يفسد عليه زواجه وعلاقته بالحارة.
يرتكز التنافر الثقافي الحاصل في الفيلم على أساس واقعي، خلافاً لعالم الأفكار والهواجس في «شحاذون ونبلاء»، هناك جدل حواري معيشي حول صعوبات الحياة، احتمالات الفقر، الأزمات المادية، ارتفاع سعر الدولار وأنبوبة البوتاجاز واتساع الهوة بين سكان الحارة ووجبة لحمة رأس شهية، تتجاور هذه الأزمات مع هم فني ناعم ومنغمس في نوتات جوستاف ماهلر وريكارد فاجنر. رغم أن السطح الحكائي للفيلم، يبين تورط عزوز في حب هذه الثقافة الرسمية الرفيعة، نظراً لحلاوة شكلها، كأشخاص وأفكار، فإن الفيلم يورط هذه الثقافة الفنية أيضاً، من خلال عزوز، ويتبين أن الانتقاء هذا ليس شيئاً ربانياً، والانفتاح على العالم ثقافياً هو شيء قائم على الطبقة، القدرة على التعلم، والمدى في إمكانية إتاحة ذلك، مع الحفاظ على أن هذا ليس هو الفن بشكل حصري، بل هو نوع حينما ينظر إليه بعين لا تراه بقيمة مسبقة، يبدو منزوياً ومنغلقاً على نفسه. ماذا تنفع الجماليات الحبيسة لعزوز الذي يعيش بالعافية معتمداً على عمل صباحي وآخر مسائياً؟
الحارة في شحاذون ونبلاء، شركة «مصر العالمية»
يتطور مزاج العبور المتكرر عبر الوسائط والأفكار في كونشرتو في «درب سعادة». رغم زحمة الأفكار التي تعكسها حيوات الشخصيات، وتداخل العلاقات العاطفية، والأنواع الموسيقية في الفيلم، حافظت الشخصيات الموجودة على حيويتها، فبدت حيرتها وخيباتها قابلة للاشتباك والفهم، حتى وإن كانت مناقضة لبعضها، لذلك تظهر تمثيلات الانتقال الثقافي أو حتى الخروج منه مثلما ظهرت شخصيات «شحاذون ونبلاء»، تجربة تختبر فيلمياً من خلال تعايش مجازي، من خلال معرفة الشخصية كفرد قبل معرفتها كرمز أو من خلال ما تحمله من أفكار، ولذلك يتجلى التباين الثقافي والحركة بالأفكار من قلب المجتمع إلى سعة العالم، كعملية إنتاج فن يقدم شيئاً من الخبرة والتجربة التي تخلق فضاء مرناً، يقوم أولاً على الفهم والانفتاح على الآخر.
رغم ما تحمله شخصيات سينما أسماء البكري من رغبات أساسية وقدرة جزئية على رفض ما يمكن من الحياة، فإنها تظل منتمية إلى العيش الطفيلي، زائدة على الحياة رغم احتمال قدرتها على التأثير والتخلي. تحمل حكايات الشخصيات بضآلة عنيفة قبالة الحضور الضخم الذي يحاكي واقع المكان الذي بدوره لا يطابق الواقع المعاش بالضرورة، بل يتخذ نفس طابع الضخامة والجذر التاريخي ليجعل التمدد الذي يبدو أبدياً، يمثل احتواء على نحو ما، ويمثل حصاراً ومنعاً عن الحياة على نحو آخر.
مشهد في فيلم شحاذون ونبلاء
نرى المكان قديماً يقاوم التهالك مثل عجوز فاتته الحياة ولم يبلغ الموت، في فيلم «شحاذون ونبلاء» الذي رغم تصوير مشاهد كثيرة منه بين المقهى في الحارة وبيت إحدى القوادات، فإن القاهرة بمعالمها التقليدية تظهر من وقت لآخر، تنذر بالشهادة على الجريمة، وبالمكاشفة تجاه شخصيات تجيد التحايل على ذاتها. تتعاطى أسماء البكري مع المكان، ليس باعتباره وجوداً مادياً يحمل ذاكرة البشر مثلما يحملون ذاكرته، بل هو فخ مادي يحدق في حيوات ساكنيه، لذلك لا يظهر المكان في الفيلم منفرداً، وإنما يتجلى دائماً عبر مشاهد واسعة، كأنه لديه شيء ما يقوله لكنه يمتنع عن ذلك ويكتفي بالتواطؤ.
يذكر نزار الصياد في كتاب «القاهرة السينمائية»، أنه خلال تدريس مواد عن العمارة والتاريخ العمراني، اعتمد على المدينة في السينما كمادة للقراءة والتحليل، وعبر ذلك تولدت لديه فكرة أن الفراغات المكانية المنتجة عبر الصورة السينمائية، لا تمثل الواقع فقط، بل تدعم وتخلق المدينة الحقيقية بشكل ما أو تستكشف شيئاً منها لم يكن مرئياً سابقاً.
رسم تخطيطي لبيت المومسات في شحاتين ونبلاء، تنفيذ أ. أنسي أبوسيف
هناك تصالح وهناك اعتراف بالحمولة التاريخية الثرية لدى عمران القاهرة وأمكنتها في فيلمي أسماء البكري، لكن المكان يظل منطوياً على إشكالية مباشرة، وهي أن المدينة رغم امتلاكها آليات التعريف الذاتية، كمكان تاريخي، تتحول إلى مكان سينمائي مضمن داخل بنية المشهد الذي يمتلك بدوره نفس آليات العمارة، من مساحات فراغ وتكوين وتباين في الأحجام وموضعة تعطي انطباعاً مباشراً بالضخامة أو الضآلة. يحظى مكان «شحاذون ونبلاء» بالتكوين الارتجالي، باعتباره ممثلاً لجزء من الزمن الفيلمي، ولضرورة أن يكون تعريفه متسقاً مع سياق معيشة الشخصيات، لذلك تشمل الصورة نفسها تمثيلات عكسية، بين المكان التاريخي الذي يحظى بقدرة عليا على التعريف، والمكان السينمائي الذي يحمل ملمحاً من تاريخ المكان الواقعي بدوره، لكنه ينتمي أكثر إلى دواخل الشخصيات، ويفقد تعريفاته ليشاركهم نفس القبول الوجودي تجاه المصير التائه.
جاء تصالح أسماء البكري مع المكان في «كونشرتو درب سعادة» كاشفاً عن بعد جديد للمدينة، لما تحمله من تعددية ثقافية وفنية، جاورت بين التهالك العمراني في القاهرة، وانزواء تاريخه، وبين البقاء الأثير لحضارات أخرى مثل الحضارة الفرعونية، ويتخذ المكان جزءاً من طابع التعبير عن عالمية الفن وقدرته على تجاوز حدوده المحلية.